الورع

كان في دمشق رجل من الحرفيين ابتلاه الله بالفقر وقلة ذات اليد، وكان رجل صالح أعطى ربه حقه وأعطى نفسه حقها في مرضاة الله وكان يسعى في طلب الرزق ولكنه لا يكاد يصل إلى قوت يومه، وكان يتعفف عن الناس فهم لا يرون منه إلا ظاهر الغنى.

خرج الرجل لصلاة الفجر صباح الجمعة في الجامع الأموي فصلى المكتوبة ثم قرأ من كتاب الله ما شاء الله له، وقام يمشي بين حلقات الشيوخ حتى جلس إلى شيخ وقور من أهل العلم يفسر قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ (201).(1)

وكان مما قال الشيخ للمستمعين الذين جلسوا إليه: يا بني إن العبد وحده ضعيف تتخطفه شياطين الإنس والجن تدخل إليه من مراكز ضعفه ثم تستحوذ عليه فتسوقه إلى حتفه ولكنه إذا تذكر خسة الأشياء الهابطة التي يشتد إليها ودناءتها وهوانها على الله في ميزان الحقائق الثابتة المجردة وعظيم ما أعدّ الله تعالى لمن تركها زهدا بها وابتغاء ما عند الله سبحانه، إذا تذكر هذه الحقائق وتبصر بها أضاء له بين يديه من سراج قلبه على عقله نور يمشي به بين الناس مبصرا والناس عميان من حوله أعمتهم الشهوات، وأخلف الله عليه مكافآت وجوائز ما كان يحلم بها أو تدور في خلده مما لا قبل له به مصداقا لقوله صلوات الله عليه: "إنك لن تدع شيئا لله إلا أبدلك الله ما هو خير لك منه".

خرج الرجل من المسجد وقد امتلأت نفسه بهذا الغذاء الروحي واستقر في عقله ذلك الحديث الشريف، ومشى الرجل على غير وعي منه في سكك دمشق وحاراتها القديمة حتى ساقته قدماه إلى حارة مسدودة، بابها الخارجي مفتوح فدخل الدار فإذا هي دار واسعة فسيحة، وكان الرجل جائعا جوعا شديدا فشم رائحة طعام شهي فتوجه إلى المطبخ فوجد طعاما مطبوخا شهيا ساخنا معرضا للهواء ليبرد، فأخذ قطعة منه دون تفكير فأكل منها لقمة صغيرة شده إليها الجوع، ولكنه تذكر فأمسك ولم يأكل، تذكر الرجل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنك لن تدع شيئا لله إلا أبدلك الله ما هو خير لك منه". وأخذ الرجل يعاتب نفسه: إن هذه اللقمة حرام لأنها سرقة... اللهم اغفر لي لو أني صبرت ربما نلتها وأضعاف أضعافها حلالا مباركا... فيا ويلتاه! ماذا صنعت بنفسي اللهم عفوك، وأقبل الرجل على نفسه يوبخا، ويحك يا نفس أنا الرجل الشريف الطاهر الذي لم تمتد يدي ولا عيني إلى حرام منذ وعيت الدنيا... اللهم سترك وعفوك وغفرانك، وتمتم بأدعية كان يحفظها والدموع تنهمر من عينيه وهو يؤنب نفسه: ويحك يا فلان لقد صرت سارقا.

مشى الرجل في سكك دمشق على غير هدى وقلبه يكاد يتفطر حزنا على ما فرط منه، ولاذ الرجل بالدعاء والاستغفار، وطال بالرجل السير وارتفعت الشمس في كبد السماء، وأثناء سير الرجل في الطرقات التقى به رجل فحدق فيه وأخذ ينظر إليه يتفحصه وصاحبها الفقير قد أخذته الدهشة من فعل الرجل، وفجأة هجم عليه الرجل وأخذ يعانقه ويقبل رأسه، وذهب صاحبنا من تصرف الرجل معه، ولكن الرجل الغريب عرف الرجل وعرفه بنفسه وقال له: أنت والله طلبتي... أنا فلان صديقك بالأمس البعيد أنسيتني؟! إني أبحث عنك منذ الفجر في كل مكان أظنك فيه، فلم أجدك وها قد أكرمني الله برؤياك فتعال معي ولا تطل الكلام فأنا أريدك لأمر مهم، ثم أردف الغريب يسأل صاحبنا: هل أنت متزوج؟

ثم إذا لم تكن متزوجا فهل تحب أن تتزوج؟

قال له صاحبنا: ما هي القصة أخبرني حتى أذهب معك على بصيرة، وأنا لعلمك غير متزوج.

فقال له الغريب: حسنا إذن هيا معي وتوكل على الله.

مشيا معا في سكك دمشق وحاراتها حتى وصلا إلى الحارة التي دخلها صاحبنا في الصباح الباكر ثم دخلا نفس الدار الواسعة الفسيحة، واستأذن الرجل فأذن له أهلها بالجلوس في قاعة الضيوف وصاحبنا لا يدري شيئا مما يحدث.

وقال الرجل الغريب: هذا أيها السادة صاحبي الذي حدثتكم عنه أتيت به خاطبا بنتكم فلانة وإنه فيما أعلم رجل صالح وإنه كذلك... وصاحبنا جالس يستمع في ذهول يحدث نفسه... أنا خاطب!! وما لدي مال ولا دار؟!

ومضى الرجل الغريب في حديثه قائلا: أما المهر فعلي، وأما الدار فهذه دار واسعة فسيحة تتسع لعدة أسر فهو يسكن فيها معكم حتى يقيض الله له دارا وإن مع العسر يسرا.

وبعد تداول الحديث وشرب القهوة ذهب القوم لصلاة الجمعة، وبعد انقضاء الصلاة جاؤوا ومعهم إمام الجامع والشهود وعقد عقد النكاح وقام أهل الدار إلى الطعام يضعونه للضيوف على شرف صهرهم الجديد، واقترب صاحبنا من الطعام فرأى القطعة التي بقيت من سؤره في الصباح على حالها تنتظره فأخذها وأكلها وهو يبكي.

قال له أهل الدار: ما الذي أبكاك ونحن في محل فرح ومرح؟!

سكت الرجل فهو لا يستطيع أن يفصح عما جرى معه في الصباح الباكر كيلا يعدّون من السارقين، ولكنه تمتم بالحديث الشريف بينه وبين نفسه: "إنك لن تدع شيئا لله إلا أبدلك الله ما هو خير لك منه"(2).

ترك هذا الرجل الشريف طعاما حراما وزادا مشبوها تركه خوفا من الله وتورعا فرزقه الله عز وجل الزاد كله وزوجة صالحة ودار فسيحة واسعة في أقل من نصف يوم بالحلال الطيب المبارك، فسبحان من أغنى بالحلال عن الحرام وقسم لكل مخلوق رزقه وطعامه وشرابه.

قال تعالى: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3).(3)

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا لما به بأس".(4)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق